ما هذا الخبل عن مصادر التغيير؟
بقلم د. سعد الدين إبراهيم ٤/ ٤/ ٢٠٠٩
أعوذ بالله من المُضللين، الذين للتغيير يُلحّون، فإذا لاحت بوادره، فإنهم له رافضون، بدعوى أن بعض دُعاته هم فى الخارج لاجئون، أو فى المهجر يعيشون!.
وربما يجهل هؤلاء المُضللون أو يتجاهلون، أن كثيراً من التغيرات الهائلة، على مدار التاريخ الإنسانى، بشّر بها، أو دعا إليها، أو قادها مُصلحون أو ثائرون من خارج الحدود.
ألم يهرب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، من مكة إلى المدينة، حيث وجدوا «أنصاراً»، يؤمنون بالدين الجديد ويدعمون المُهاجرين، وحاربوا معهم إلى أن عادوا إلى مكة فاتحين. وفى هذه السيرة النبوية العطرة، لم يتنطع أو يتشنج أى من المُضللين ليُنكر أو يرفض ما حدث قبل ١٤ قرناً بدعوى أن الرسول (صلعم) فعل ما فعل «من الخارج»!.
وإلى قلب العزيزة فريدة النقاش، التى التحقت بنفس موكب الرافضين لنداء المُهاجرين المصريين لإصلاح أحوال الوطن، ربما تكون سيرة الرفيق «لينين»، الذى ظل يقود معاركه لإسقاط القيصرية فى روسيا، من باريس، فى أوائل القرن الماضى، ولم تتهمه هى أو رفاقها بأن لينين قاد واحدة من أعظم ثورات التاريخ لحساب الإمبريالية الفرنسية! وقبل لينين، أين كتب ماركس وأنجلز إنجيل ماركسيتهما؟
ألم يفعلا ذلك خارج وطنهما ألمانيا، وهما لاجئان فى لندن؟! بل وأقرب لنا فى الزمان والمكان، حينما قاد أية الله روح الله الخومينى معركة التغيير الثورى فى إيران، خلال سبعينيات القرن الماضى. فمن أين فعل ذلك؟ لعشر سنوات فعل ذلك من النجف الأشرف بالعراق، أى خارج حدود وطنه الإيرانى ثم حينما ضغط الشاه على صدّام حسين، أو عقد معه صفقة شط العرب، أجبر هذا الأخير آية الله الخومينى على الفرار غرباً، إلى باريس.
ولم يتهم أحد ماركس أو أنجلز بالعمالة للإمبريالية البريطانية وقتها وكانت بريطانيا العُظمى هى القوة العالمية الأعظم. ورغم إقامتهما فى لندن، لم يتهمهما أحد بمثل ما تتهم به الرفيقة فريدة النقاش أمثالهما من دُعاة التغيير المصريين فى «أرض الله الواسعة» (المقابل الإسلامى «للعالمية» فى القاموس الماركسي)! كذلك لم تمنع إقامتهما فى بريطانيا نقد الإمبريالية كأكثر مراحل الرأسمالية العالمية استغلالاً.
وقد لجأ كثير من رفاق فريدة النقاش، فى زمن سابق، إلى موسكو، وصوفيا، وبراغ، فى الحقبتين الناصرية والساداتية، وظلوا يُناضلون من أجل التغيير فى مصر. واتهم الرؤساء بالعمالة حيناً والخيانة أحياناً. واصطنعوا مؤامرات بهذا المعنى ألصقت بأسماء أولئك وهؤلاء. وإذا كان مفهوماً أن يفعل ذلك أصحاب السُلطة، حفاظاً على سُلطانهم وإمعاناً فى طغيانهم، فما هو مُبرر الرفيقة فريدة، وهى التى عاشت مُعظم حياتها فى المُعارضة؟
رغم أن ثنائية «الداخل والخارج» تتردد منذ سنوات بواسطة كثيرين، مُعظمهم من أبواق النظام، فإن أمرهم ودوافعهم معروفة. أما أن تفعل ذلك شخصية مُعارضة ذات سجل نضالى شريف، فقد لزم التنويه والرد والإيضاح، خاصة أن صورة لها ظهرت مع ما رددته تعليقاً على تحركات مصريين فى الخارج أزعجت النظام. فتحدثت هى وكأنها أحد أبواقه، ربما دون أن تقصد.
ولكنها أيضاً مُناسبة لتنبيه المُعارضين الشُرفاء من الوقوع فى فخاخ هذه الثنائيات الزائفة. من ذلك أنه فى أعقاب هزيمة ١٩٦٧، ظهرت ثنائية أخرى زائفة، وهى «الحل السلمى أو الحل العسكرى». والذى يعرف ألف باء فى علوم وفنون استراتيجية إدارة الصراعات، يُدرك أن هذا يتكامل مع ذاك. أو كما قال كلاوس فينز، «الحرب هى التفاوض بأسلوب مختلف». وهكذا التغيير السياسى والمجتمعى. فهو يمكن أن ينبع من قوى طليعية داخل أو خارج الحدود، ولكنها جميعاً تحمل نفس الهموم والشجون الوطنية والطبقية.
بل إنه لم توجد قوى إصلاحية مُعارضة فى الخارج إلا بسبب المُلاحقة والقمع فى الداخل. فما كان للرسول محمد (صلعم) أن يهجر وطنه مكة إلى المدينة، إلا بسبب تصاعد إيذاء قومه من قريش. وهو ما ينطبق على كل الشخصيات التاريخية التى ناضلت من أجل قضاياها من خارج حدود أوطانها الأصلية. وكان يمكن لهذه الشخصيات أن تنعم بهدوء العيش فى الداخل أو الخارج إن هى لزمت الصمت. أى أن نضالها من الخارج ينبغى أن يُحسب لها لا أن يُحسب عليها.
كذلك يُردد الضالون والمضللون، عادة سؤالاً آخر، وهو: لماذا لا يأتى كل من ينشد الإصلاح من الخارج، إلى الوطن ويُناضل من الداخل؟
ولأول وهلة يبدو ذلك تساؤلاً وجيهاً ومشروعاً. ولكن حقيقة الأمر هى:
١ـ أن من يُناضلون من الخارج هم أولئك الذين تركوا الأوطان سعياً وراء الرزق أو الحُرية، اللذين لو توفرا فى المقام الأول لما تركوا أوطانهم أصلاً.
٢ـ أن بعض من يُناضلون من الخارج، سبق أن دفعوا ضريبة تصاعدية من صحتهم وحُريتهم فى سجون الطغيان. ومن بينهم هذا الكاتب (سعد الدين إبراهيم)، الذى تعرض للسجن ثلاث مرات، رغم براءته التى أقرتها أعلى محاكم الديار المصرية. ولم تعوضه السُلطة، أو حتى تكف عن مُلاحقته فى المحاكم. وقد صدرت عليه بالفعل أحكام غيابية فى بعضها وما زال بعضها الآخر قيد المُحاكمة.
٣ـ أن من يُناضلون من الخارج يفعلون ذلك، لا كبدائل لمن يُناضلون من الداخل، ولكن كإضافات تكميلية. وهم يعلمون يقيناً أن الأصل والأساس هو الداخل. ولعل مُناسبة ذكرى إضراب ٦ أبريل ٢٠٠٨ هى نموذج لهذا التكامل بين الداخل والخارج، فمع ظهور هذا المقال ستكون هناك مُظاهرات ووقفات احتجاجية أمام السفارات والقنصليات المصرية فى عواصم البلدان الديمقراطية، وأهمها بريطانيا وفرنسا وكندا والولايات المتحدة.
٤ـ وقد يتساءل نفس المتنطعين والضالين: وما فائدة أو جدوى التظاهر فى الخارج؟ والإجابة هى أن هذه الأنظمة تتصرف عادة كالأسود على شعوبها، ولكنها تتصرف كالنعام أو النعاج المذعورة إذا تم إحراجها فى عواصم الكبار، فهى لا تحترم شعوبها أو تعمل لها عظيم حساب، ولكنها تعمل ألف حساب وحساب لعواصم الكبار.
٥ـ وسياقاً على خبرات سابقة، فإن السيطرة الحكومية على مُعظم وسائل الإعلام، والسيطرة الأمنية على «الفضاء العام» - أى الميادين والساحات والشوارع الرئيسية - يمكن معها التعتيم الكامل على المُظاهرات الاحتجاجية وأفعال العصيان المدنى فى الداخل، وهنا يصبح دور نشطاء الخارج حيويا للغاية، حتى تصل أصوات الداخل للعالمين، وحتى ينكشف غياب شرعيتها.
٦ـ أخيراً، وليس آخراً، فإن من يُضيعون وقتهم ووقت قرّائهم فى مُفاضلات وهمية وعبثية بين التغيير من الداخل أو الخارج، أحرى بهم أن يتحاوروا حول طبيعة التغيير المطلوب وكيفية إحداثه. إن وصف مناقشة بيزنطية يعود إلى مشهد تاريخى حقيقى أضاع فيه قساوسة بيزنطة وقتهم فى مُساجلات عقيمة حول جنس الملائكة، هل هم ذكور أم إناث.. وسقطت عاصمتهم القسطنطينية على يد السلطان العثمانى محمد الفاتح، بينما كان القساوسة ما زالوا يتناظرون. ويبدو أن عدداً من مثقفينا ما زالوا مثل قساوسة القسطنطينية، سامحهم الله، فهو الغفار الرحيم.
بقلم د. سعد الدين إبراهيم ٤/ ٤/ ٢٠٠٩
أعوذ بالله من المُضللين، الذين للتغيير يُلحّون، فإذا لاحت بوادره، فإنهم له رافضون، بدعوى أن بعض دُعاته هم فى الخارج لاجئون، أو فى المهجر يعيشون!.
وربما يجهل هؤلاء المُضللون أو يتجاهلون، أن كثيراً من التغيرات الهائلة، على مدار التاريخ الإنسانى، بشّر بها، أو دعا إليها، أو قادها مُصلحون أو ثائرون من خارج الحدود.
ألم يهرب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، من مكة إلى المدينة، حيث وجدوا «أنصاراً»، يؤمنون بالدين الجديد ويدعمون المُهاجرين، وحاربوا معهم إلى أن عادوا إلى مكة فاتحين. وفى هذه السيرة النبوية العطرة، لم يتنطع أو يتشنج أى من المُضللين ليُنكر أو يرفض ما حدث قبل ١٤ قرناً بدعوى أن الرسول (صلعم) فعل ما فعل «من الخارج»!.
وإلى قلب العزيزة فريدة النقاش، التى التحقت بنفس موكب الرافضين لنداء المُهاجرين المصريين لإصلاح أحوال الوطن، ربما تكون سيرة الرفيق «لينين»، الذى ظل يقود معاركه لإسقاط القيصرية فى روسيا، من باريس، فى أوائل القرن الماضى، ولم تتهمه هى أو رفاقها بأن لينين قاد واحدة من أعظم ثورات التاريخ لحساب الإمبريالية الفرنسية! وقبل لينين، أين كتب ماركس وأنجلز إنجيل ماركسيتهما؟
ألم يفعلا ذلك خارج وطنهما ألمانيا، وهما لاجئان فى لندن؟! بل وأقرب لنا فى الزمان والمكان، حينما قاد أية الله روح الله الخومينى معركة التغيير الثورى فى إيران، خلال سبعينيات القرن الماضى. فمن أين فعل ذلك؟ لعشر سنوات فعل ذلك من النجف الأشرف بالعراق، أى خارج حدود وطنه الإيرانى ثم حينما ضغط الشاه على صدّام حسين، أو عقد معه صفقة شط العرب، أجبر هذا الأخير آية الله الخومينى على الفرار غرباً، إلى باريس.
ولم يتهم أحد ماركس أو أنجلز بالعمالة للإمبريالية البريطانية وقتها وكانت بريطانيا العُظمى هى القوة العالمية الأعظم. ورغم إقامتهما فى لندن، لم يتهمهما أحد بمثل ما تتهم به الرفيقة فريدة النقاش أمثالهما من دُعاة التغيير المصريين فى «أرض الله الواسعة» (المقابل الإسلامى «للعالمية» فى القاموس الماركسي)! كذلك لم تمنع إقامتهما فى بريطانيا نقد الإمبريالية كأكثر مراحل الرأسمالية العالمية استغلالاً.
وقد لجأ كثير من رفاق فريدة النقاش، فى زمن سابق، إلى موسكو، وصوفيا، وبراغ، فى الحقبتين الناصرية والساداتية، وظلوا يُناضلون من أجل التغيير فى مصر. واتهم الرؤساء بالعمالة حيناً والخيانة أحياناً. واصطنعوا مؤامرات بهذا المعنى ألصقت بأسماء أولئك وهؤلاء. وإذا كان مفهوماً أن يفعل ذلك أصحاب السُلطة، حفاظاً على سُلطانهم وإمعاناً فى طغيانهم، فما هو مُبرر الرفيقة فريدة، وهى التى عاشت مُعظم حياتها فى المُعارضة؟
رغم أن ثنائية «الداخل والخارج» تتردد منذ سنوات بواسطة كثيرين، مُعظمهم من أبواق النظام، فإن أمرهم ودوافعهم معروفة. أما أن تفعل ذلك شخصية مُعارضة ذات سجل نضالى شريف، فقد لزم التنويه والرد والإيضاح، خاصة أن صورة لها ظهرت مع ما رددته تعليقاً على تحركات مصريين فى الخارج أزعجت النظام. فتحدثت هى وكأنها أحد أبواقه، ربما دون أن تقصد.
ولكنها أيضاً مُناسبة لتنبيه المُعارضين الشُرفاء من الوقوع فى فخاخ هذه الثنائيات الزائفة. من ذلك أنه فى أعقاب هزيمة ١٩٦٧، ظهرت ثنائية أخرى زائفة، وهى «الحل السلمى أو الحل العسكرى». والذى يعرف ألف باء فى علوم وفنون استراتيجية إدارة الصراعات، يُدرك أن هذا يتكامل مع ذاك. أو كما قال كلاوس فينز، «الحرب هى التفاوض بأسلوب مختلف». وهكذا التغيير السياسى والمجتمعى. فهو يمكن أن ينبع من قوى طليعية داخل أو خارج الحدود، ولكنها جميعاً تحمل نفس الهموم والشجون الوطنية والطبقية.
بل إنه لم توجد قوى إصلاحية مُعارضة فى الخارج إلا بسبب المُلاحقة والقمع فى الداخل. فما كان للرسول محمد (صلعم) أن يهجر وطنه مكة إلى المدينة، إلا بسبب تصاعد إيذاء قومه من قريش. وهو ما ينطبق على كل الشخصيات التاريخية التى ناضلت من أجل قضاياها من خارج حدود أوطانها الأصلية. وكان يمكن لهذه الشخصيات أن تنعم بهدوء العيش فى الداخل أو الخارج إن هى لزمت الصمت. أى أن نضالها من الخارج ينبغى أن يُحسب لها لا أن يُحسب عليها.
كذلك يُردد الضالون والمضللون، عادة سؤالاً آخر، وهو: لماذا لا يأتى كل من ينشد الإصلاح من الخارج، إلى الوطن ويُناضل من الداخل؟
ولأول وهلة يبدو ذلك تساؤلاً وجيهاً ومشروعاً. ولكن حقيقة الأمر هى:
١ـ أن من يُناضلون من الخارج هم أولئك الذين تركوا الأوطان سعياً وراء الرزق أو الحُرية، اللذين لو توفرا فى المقام الأول لما تركوا أوطانهم أصلاً.
٢ـ أن بعض من يُناضلون من الخارج، سبق أن دفعوا ضريبة تصاعدية من صحتهم وحُريتهم فى سجون الطغيان. ومن بينهم هذا الكاتب (سعد الدين إبراهيم)، الذى تعرض للسجن ثلاث مرات، رغم براءته التى أقرتها أعلى محاكم الديار المصرية. ولم تعوضه السُلطة، أو حتى تكف عن مُلاحقته فى المحاكم. وقد صدرت عليه بالفعل أحكام غيابية فى بعضها وما زال بعضها الآخر قيد المُحاكمة.
٣ـ أن من يُناضلون من الخارج يفعلون ذلك، لا كبدائل لمن يُناضلون من الداخل، ولكن كإضافات تكميلية. وهم يعلمون يقيناً أن الأصل والأساس هو الداخل. ولعل مُناسبة ذكرى إضراب ٦ أبريل ٢٠٠٨ هى نموذج لهذا التكامل بين الداخل والخارج، فمع ظهور هذا المقال ستكون هناك مُظاهرات ووقفات احتجاجية أمام السفارات والقنصليات المصرية فى عواصم البلدان الديمقراطية، وأهمها بريطانيا وفرنسا وكندا والولايات المتحدة.
٤ـ وقد يتساءل نفس المتنطعين والضالين: وما فائدة أو جدوى التظاهر فى الخارج؟ والإجابة هى أن هذه الأنظمة تتصرف عادة كالأسود على شعوبها، ولكنها تتصرف كالنعام أو النعاج المذعورة إذا تم إحراجها فى عواصم الكبار، فهى لا تحترم شعوبها أو تعمل لها عظيم حساب، ولكنها تعمل ألف حساب وحساب لعواصم الكبار.
٥ـ وسياقاً على خبرات سابقة، فإن السيطرة الحكومية على مُعظم وسائل الإعلام، والسيطرة الأمنية على «الفضاء العام» - أى الميادين والساحات والشوارع الرئيسية - يمكن معها التعتيم الكامل على المُظاهرات الاحتجاجية وأفعال العصيان المدنى فى الداخل، وهنا يصبح دور نشطاء الخارج حيويا للغاية، حتى تصل أصوات الداخل للعالمين، وحتى ينكشف غياب شرعيتها.
٦ـ أخيراً، وليس آخراً، فإن من يُضيعون وقتهم ووقت قرّائهم فى مُفاضلات وهمية وعبثية بين التغيير من الداخل أو الخارج، أحرى بهم أن يتحاوروا حول طبيعة التغيير المطلوب وكيفية إحداثه. إن وصف مناقشة بيزنطية يعود إلى مشهد تاريخى حقيقى أضاع فيه قساوسة بيزنطة وقتهم فى مُساجلات عقيمة حول جنس الملائكة، هل هم ذكور أم إناث.. وسقطت عاصمتهم القسطنطينية على يد السلطان العثمانى محمد الفاتح، بينما كان القساوسة ما زالوا يتناظرون. ويبدو أن عدداً من مثقفينا ما زالوا مثل قساوسة القسطنطينية، سامحهم الله، فهو الغفار الرحيم.