ناقش برنامج تسعون دقيقة مساء يوم الأحد 24 فبراير مشكلة إحدى المعلمات التي تتعرض للتهجم والتأنيب والإنتقاد المستمر من مديرة المدرسة الحكومية "أم المؤمنين عائشة" التي تعمل بها ، بسبب عدم رضا المديرة عن الأزياء التي ترتديها المعلمة ، باعتبارها غير لائقة وغير محتشمة من وجهة نظر سعادتها (كما اعترفت المديرة بذلك في نفس البرنامج) ، بالإضافة إلى سماح المديرة لإحدى المفتشات من خارج المدرسة أيضا بانتقاد ملابس المعلمة وإلقاء محاضرة من الوعظ الديني عليها ، ثم وصل الأمر في النهاية إلى إحالة هذه المعلمة للتحقيق.
وهذه المشكلة لا يجب أن تمر علينا مرور الكرام ، لأنها تعكس أحد أهم أسباب إنهيار نظام التعليم في بلادنا وهو تنامي العقلية الأيديولوجية على حساب العقلية الأكاديمية ، أو ما يعرف إصطلاحا بـ "أدلجة التعليم".
فالسيدة مديرة المدرسة ، لا تدير مدرستها على أسس وقواعد إدارية وأكاديمية معروفة ، لكل منها تعريف محدد جامع ومانع يضمن كفاءة العملية التعليمية ، وتطويرها ، وتقييم المعلمين والطلبة على أسس علمية ومنهجية ، لا تختلف باختلاف أفكار أو عقائد القائمين على إدارة المدرسة ، وتحدد كذلك ما هو عام ويخضع لهذه القواعد ، وما هو خاص ولا يحق لأحد التدخل فيه. بل تدير السيدة مدرستها وفقا لعقلية أيديولوجية تصور لها أن ألفاظ مثل "لائق" و "مناسب" و "محتشم" تصلح كمعايير إدارية ، تتخذ على أساسها قرارات سيادية ، مما يفسر التشوش الذي ظهر في حديث المديرة وخلطها بين العام والخاص ، والأكاديمي والإداري ، والعلمي والإفتراضي. فهذا النوع من الألفاظ الوصفية لا يمكن تعريفه إلا أيديولوجيا ، فالسادة الأيديولوجيون كالشعراء ، يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم ، ويفسرون كل شيء حسب ما يحلو لهم.
فهل هو قدر علينا أن نتخلص من دراويش الأيديولوجية الإشتراكية ، حيث كان يتم تعريف الوطني والثوري والملتزم والنقي ، لنقع في أيدي دراويش الأيديولوجية الدينية حيث يتم تعريف اللائق والمناسب والمحتشم والحلو والطعم واللذيذ ؟ فتبقى الحرية حلال على غيرنا وحرام علينا إلى الأبد.
من الواضح أن السيدة مديرة المدرسة لا تعرف ، أو لم تتلقى من الإعداد والتدريب أو التوجيه الإداري ما يؤهلها لمعرفة أن هذه المعاني نسبية ولا تقبل التعريف العلمي العام الذي ينطبق على كل البشر وكل الحالات ، وأن ما هو لائق أو مناسب أو محتشم عندها قد لا يكون كذلك عند غيرها ، وأن مبادئ الأخلاق المطلوب منها أن تغرسها في التلاميذ ، هي الإستقلال ، والمبادرة الشخصية ، والإبداع ، وعدم التقليد ، وتحمل مسئولية الإختيار ، وإحترام الحرية الشخصية ، واحترام حق الاخرين في الإختلاف ، وليس أخلاق القهر والتخويف والقولبة والتنميط واتباع النموذج الواحد ، والمنهج الواحد ، والرأي الواحد ، والزي الواحد ، والسلوك الواحد ، مما يفسر لنا كيف يتم تحجيب وتنقيب وقولبة الفتيات في الإبتدائي والإعدادي. وأخيرا أن هؤلاء التلاميذ بشر وقادرون بعقولهم على تمييز النماذج الحسنة والسيئة من حولهم ، وليسوا قطيع من الغنم تقودهم سيادتها إلى حيث تشاء ، وتحدد لهم من أين يستقون المعرفة ، وكأنها الفرعون " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ".
فإذا كانت المديرة الفاضلة تقوم بإلغاء شخصية المعلمات والتعامل معهن بهذا الإسلوب الإستبدادي والمهين ، فينبغي أن نشفق على التلاميذ الذين تقوم ولا شك بافتراسهم وتحويلهم إلى مجرد أشياء تسمع وتطع. وإذا كانت تتصور أنها مكلفة من السماء بتنفيذ مهمة إلهية (مما يتلبس بعضهم أحيانا) وتطبيق تعاليم الدين ، فالأديان التي جاء بها الرسل براء من هذا الإسلوب ، اللهم أن يكون دين الصحراء ، حيث القحط البيئي والفكري والأخلاقي ، وحيث لا شيء غير الراعي والقطيع والذئب المتربص ليل نهار.
أما المطالبة في ختام البرنامج ، بأن تقوم الوزارة بإصدار نشرة تحدد فيها مواصفات لباس المعلمات ، فلا نستطيع إلا ان نرفضها وبشدة ، فهؤلاء المعلمات بالغات راشدات ويفترض فيهن الأهلية الكاملة لإستخدام عقولهن في التمييز بين الصواب والخطأ ، والقدرة على اختيار الملابس التي تتناسب مع العرف والقانون ، وكفى بالعرف والقانون حسيبا.
أما المثير للدهشة حقا ، فهو ما ادعته السيدة المديرة في نهاية البرناج من أنها (أو مدرستها) قد حصلت على تقدير الإدارة المثالية من وزارة التعليم ، فإذا كان هذا صحيح ، وإذا كان هذا هو المثال ، ونحسبه للأسف قد أصبح كذلك ، توجب علينا أن نعزي أنفسنا في العملية التعليمية والتربوية برمتها وإلى أجل غير مسمى.
---------------------------------------------------
إسماعيل حسني باحث إسلامى - نشر المقال بجريدة الفجر القاهرية بتاريخ 3/3/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق